فصل: النفس الفرعونية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.النفس الفرعونية:

66 - وإذا كانت هذه الآيات التي تلوناها تصور النفس التي تطغى أن رأتها استغنت، وحسبت أنه لا قدر فوق ما تقدر، وكيف تفاجأ بقدر الله فتتنبه، فقد صور الله تعالى في كتابه العظيم النفس التي تطغى، فتتغطرس فتتحكم في الرقاب، وتفرق بين العباد، فهذه يأخذها الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، ولا مكان لتوبتها؛ إذ تفاجأ؛ لأنه لا يكفر ذنوب العباد إلّا ردها، ولا سبيل لردِّ ما فعلوه، ثم كان فسادهم، وتضييعهم الناس، ولذلك يؤخذون بذنوبهم، واقرأ قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 4، 5].
ولا شَكَّ أن نسج الآيات متماسك بخيوطٍ دقيقة غير قابلة لأن تنقطع، وهي واضحة في تصوير الحاكم الفاسد كيف يعلو في الأرض، وكيف يتحكّم، وقد قال الباقلاني في صيغة العبارة بالنسبة للآية الأولى:
هذه تشتمل على ست كلمات، سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف.
وهي تشتمل على جملة وتفصيل، وجامعة وتفسير، ذكر العلوّ في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكَّم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما؛ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور، ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد، وكفت في التنظيم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره.
ثم ذكر وعده بالتخليص بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}، وهذا من التأليف بين المؤتلف، والجمع بين المتسأنس.
هذا ما ذكره الباقلاني من ناحية التآخي في الألفاظ والالتحام في نسجها، وإنك لتجد ذلك التآخي في سوق العلوِّ الذي تعالى به وهو في الأرض، فقال تعالى: {عَلَا فِي الْأَرْضِ} فهو علوّ من في الأرض، ولاصق بها، فليس يعلو إلى السماء، ولكنه مستمر في الأرض، فهو استعلاء وليس بعلوِّ، والاستعلاء طلب للعلوّ، أو الإحساس به، وليس قائمًا على أيّ اعتبار، فكان ذلك التقابل في اللفظ من حيث الانسجام ومن حيث المعنى فيه دليل على أنه استكبار وليس علوًّا في ذاته.
ولكن كيف يستقيم له هذا العلو وهو لاصق في الأرض متنقل فيها، إنما هو الغلوّ في الكبر، وحمل الناس على الإقرار أو السكوت، أو ظهور الرضا وما هم براضين؛ لأن أساس الرضا التخيير ولا اختيار، فإن لم يكن فلا رضا.
ولننتقل من ذلك النص المصور للاستعلاء الكاذب الظالم إلى ما سلكه لحمل الناس على السكوت عنه، أو الخضوع له كارهين، وإن مردت نفوسهم على الخضوع، حتى صاروا كالطائعين، وذلة الإحساس بالتحكم قارة في نفوسهم حتى أخضعتها، فجعلتها خانعة، أظهرتها راضية ولا رضا عندهم؛ لأنه لا اختيار لها فيما تختار.
ذكر سبحانه ما سلكه فرعون كما يسلكه أيّ طاغية من طواغيت هذه الدنيا الذين يظهرون في كل زمن، وفي أرض كأرض مصر، وناس كناسها، كما أشار إلى أنه عمل على تفريق جمعهم وتشتيت أفكارهم، وصاروا متفرقين في ذات نفوسهم ولا تجمعهم جامعة حق ولا ثورة على ظلم، بل كان يقول لهم في استكبار: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ويقول في استنكار: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38].
وقد قال تعالى فيما سلكه: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} وهنا نجد كلمات ثلاثًا، كل واحدة منها تنبئ عن قصد الفرقة والانقسام بعد الوحدة والالتئام، فكلمة {جعل} هي بمعنى صيَّرَ، وهي تدل على أنهم كانوا متحدين في المشاعر والأحاسيس، متفقين في المنازع والمطامح والآمال، فجعلهم متفرقين منتشرين في غير اجتماع، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى، والكلمة الثانية {أهلها} فهم كانوا قبلها أهلًا، أي: إنهم كانوا مجتمعين غير منقسمين، فلكي يعلو عليهم أجمعين فرَّق جمعهم وشتَّت شملهم، فكيف يعلو إنسان مهما يكن طاغوته ومهما تكن قوته وغلظته وحيلته على قوم متحدين مجتمعين، ولكنه يخذل بينهم، ثم يملك عليهم.
والكلمة الثالثة كلمة {شيعًا}، فإنَّ الشياع يتضمَّن معنى الانتشار، وأن يقوى جزء على الآخر، يحسب كل جزء منهم أنه أقوى من الآخر، وأنه لا تربطه به رابطة، ولا يجمعهم به قومية أو رحم، أو تشابك المصالح، ودفع المضار، فإذا كانوا كذلك استعلى واستكبر، ولا يجد من يرده عن غيه، ويقمعه في شره، فيكون الهلاك، وتقطع الأسباب.
وإن النتيجة التي تكون أثرًا لذلك أن يجعل من طائفة منهم بطانة له، وجندًا يستنصر بهم ويتخذهم أسواطًا يضرب بها غيرهم، ويتحكم في جمعهم، ولذلك قال تعالى في ذكر هذه النتيجة الحتمية التي تتبع التفرق تبعية المسبب لسببه، والنتيجة للمقدمة: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} أي: يصور طائفة منهم ضعفاء، أو يطلب ضعف طائفة منهم، ويتتبعه، وهنا إشارة بيانية رائعة لا تكون إلا في القرآن الكريم، وهذه الإشارة هي أنه ذكر الطائفة المستضعفة، ولم يذكر الطائفة التي جعل فيها قوته يضرب بها رقاب الناس، والسبب في أنه تعالى لم يذكرها موصوفة بالقوة؛ لأنها وإن لبست لبوس القوة ليست - في حقيقة أمرها - قوية في شيء؛ لأنها ليس لها اختيار فيما اختارت؛ ولأنها لا تملك من أمرها شيئًا، بل مسخَّرة لطغواه، مراده له، وليست بمريدة فيما تفعل، والقوي هو الذي يفعل ما يريد هو لا ما يريده غيره، ويعمل ليرضي شهوة نفسه لا ما يرضي غيره، وليس هو من تكون إرادته فانية في إرادة غيره، قد لبس جلد النمر، وما هو إهابه، وإذا كانت الطائفة المستضعفة إيذاؤها بدني مادي، فهؤلاء الذين ظهروا بمظهر القوة إيذاؤهم معنوي، وهو فناء إنسانيتهم وإرادتهم وتفكيرهم، وكل مكونات الإنسان الكامل، فهم ضعفاء وإن ظهروا كأنهم الأقوياء، فجنود السلطان الغاشم لا يعتبرون الأقوياء؛ لأنهم أداة طائغة، وإمعات طامعة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى: ذكر الضعفاء تمهيدًا لبيان مظاهر الطغيان الذي يفعله الملوك مع مَن يتحكَّمون فيهم بحكم الهون والفساد، لا بحكم المصلحة والرشاد، وأنَّهم يرتكبون أقصى ما تتصوره العقول من تذبيح وتقتيل، ولذا قال تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}، وإن ذلك شأن الطغيان دائمًا، يقتل نخوة الأمة بقتل شبابها، أو زجّهم في غيابات السجون من غير أمد، ومن غير حكم، كما رأينا في حكم الدكتاتورية في ألمانيا، وفي إيطاليا، وهكذا، وقد رأينا مثل ذلك في العراق.
وقد ختم الله تعالت كلماته النص السامي بالباعث على الطغيان والتحكم والاستعلاء، وتفريق الأمة، فقال: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين}، أي: إنَّ الفساد مستحكم متغلغل في أطواء نفسه، وقد بعثه على جعل الأمة متفرقة، وتحكيم طائفة من طائفة، فأغرى بينهم العداوة والبغضاء، يحسّ كل فريق منهم بأنه مظلوم، وظالمه هو الفريق الآخر، يتظالمون فيما بينهم ويتعادون؛ ليتمكَّن الظالم من ظلمهم والتحكم في رقابهم، وأن يقول لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ولا ينكر أحد، ولو في قلبه؛ لأن كل فريق يتهم الآخر بأنه عين عليه، ويريد النكاية به.
وقد أكَّد سبحانه وصف الإفساد فيهم بأَنَّ وبِكَانَ الدالة على أنَّ الفساد كان في الماضي، ومستمر في الحاضر، وببيان أنه داخل في ضمن المفسدين في الأرض إخوان إبليس، وينطبق عليه قوله تعالى في شأن الظالمين الذين يمنون الناس الأماني ويكذبون ويخلفون: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 - 206].
وإن هذا الوصف الذي ساقه الله تعالى للوالي الفاسد هو وصف فرعون ومن استعلى واستكبر، ووصفه لكل طاغية من طغاة الدنيا يمنِّى الناس الأماني، حتى إنه ليصور لهم أنه سيجعل لهم الأرض نعيمًا، وخيراتها لبنًا وعسلًا، حتى إذا حكم تحكَّم، وكانت شهوته نظامًا، وهواه حكمًا، ولا بُدَّ أن يرضى الناس حكومته طوعًا أو كرهًا، ومن قال له اتق الله قطع عنقه، أو سلط عليه كلابه الذين جعلوا أنفسهم ملكًا له، يملك رقابهم، ويظنون أنفسهم الأحرار، وهم العبيد حقًّا.
67 - هذا ما تصوره الآيات في وصف فرعون وأمثاله من الطواغيت الذين يظهرون في العصور المختلفة، وإذا لم يتسموا باسم فرعون ففيهم صفاته وفعاله، وفي أتباعهم أوصاف أتباعه, المستضعفون مأكولون في عهودهم، كما هم مأكولون في عهده.
وبعد تصوير الله تعالى طغيان فرعون كان من نسق البيان الرائع أن يذكر نهايته، وأنَّه إذا وصل الطغيان إلى أقصى حدِّه كانت النهاية؛ لذا ذكر سبحانه وتعالى - في مقابل إرادته الإفساد، وكونه متغلغلًا في كيانه، ذكر في مقابله إرادة الله تعالى، وإرادته سبحانه فوق كل إرادة، ولو كانت طغيان فرعون، ولذا قال سبحانه في بيان إرادته: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5، 6].
إرادة طاغية مغرورة مستكبرة، وهي إرادة الطغيان، وإرادة كريمة معطية مانحة مانعة من الشر والعبث، وهي إرادة الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يمُنُّ على المستضعفين، ونجد هنا تعميمًا في المنِّ، فلم يذكر سبحانه وتعالى - ما يمنُّ به، بل كان التعميم، فهو سبحانه يمنُّ عليهم بالحرية بعد الاستعباد، ويمنُّ عليهم بالقوة بعد الضعف، ويمنُّ عليهم بالعزة بعد الذلة، ويمنُّ عليهم بالثمرات بعد الجدب، وهكذا تتعدد النعم التي يمنُّ بها سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]. وكل هذه المعاني هي بعض ما تدل عليه كلمة {نمنُّ}، وخَصَّ سبحانه من بين هذه النعم التي يمنُّ بها نعمة كبيرة هي الخلاص من حكم فرعون إلى أن يكونوا أئمة، أي: ولاة لأنفسهم لا يملك أحد التحكم فيهم ولا السيطرة، فكل حر أمير في نفسه، ويجعل منهم أمراءهم وأولياء أمورهم، لا يفرض عليهم أمير لا يرضونه ولا ولي من غيرهم، وآراؤهم في حكمهم هي الغالبة، فلا يحكمهم متحكِّم، ولا يسيِّر أمورهم متغلب، فانظر كيف جمعت الكلمة كل هذه المعاني، وجاءت من بعد ذلك كلمة تدل على كمال إرادته سبحانه في هذا الوجود فقال: {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين}، ونجد أنه سبحانه لم يبين الموروث، وفيه إشارة إلى عموم ما آل إليهم؛ إذ إنهم سيخلفونه في جنات وعيون، وكنوز ومقام وكريم، ولكن يكون لهم هذا إذا استقاموا على طريقة الحق، ولم يخرجوا عن جادته ومنهاجه، وغير ذلك.
بعد هذا يبين سبحانه وتعالى - أنَّ طغيان فرعون انتهى بالفناء، وأن يذوق عاقبة أمره، كما اغتر أصحاب الحديقة بحديقتهم المذكورة، فقال تعالت كلماته:
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.
التمكين كان بإعطاء سلطان لهم في الأرض، إذا استطاعوا القيام بحق التمكين، فإنه يحتاج إلى قوى نفسية عالية وإدراك لمعنى العزة والكرامة، ولم يمردوا على الذلة والمهانة.
ثم يبين سبحانه عاقبة الظلم، وأنه لم يدفع المحذور، فقال تعالى:
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.
لقد كان فرعون وحده، ووزيره وجنود معهما تابعين غير مستقلين في فكره أو إرادة فهم ما كانوا يحذرون أن يدبّر الناس ما ينتقضون به على حكمها، أو يقتلوا فرعون، فقد أراهم رب العالمين، فكان موت فرعون على ما قدره الله تعالى لموسى عليه السلام ومن معه، وهكذا كل طاغية يطغى ويستبد، ويرتكب الفجور في كل ناحية، حذر أن تخرج خارجة، وبعد أن يكون منه ما يكون من مثل ما فعل فرعون، ثم تكون من بعد كلمة الله تعالى هي العليا، ويقع المحذور في وقت لا يملك الرجوع، كما قال فرعون وقد أدركه الغرق، قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 90 - 92].
68 - وبعد ذلك البيان الذي حاولنا به الوصول إلى بعض أسرار المعاني القرآنية التي تعلو ولا يعلى عليها، واليانعة الثمار الدانية القطوف في أعلاها، والثروة الخصبة المملوءة حياة في أدناها، كما قال البليغ العربي القرشي، نريد أن نشير إشارة إلى ما وصل إليه تفكيرنا في إجمال ما سبق، فنجد:
أولًا: اتساق العبارة في المقابلة بين العلوِّ المصطنع والالتصاق بالأرض، الذي يفيد مع هذا المقابلة اللفظية أنَّه سيطر على الأرض واستمكن فيها وتحكَّم حتى ساغ له أن يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51].
ثانيًا: إنَّ التعبير باستضعاف، وأنَّ كل من يراد على الضعف ليس طبيعيًّا فطريّا، ولكنه يكون بالاستضعاف، وأنَّ كل من يراد على الضعف لا يستسلم فيستضعف، بل يقاوم ويناضل، فيموت عزيزًا أو يمنحه الله تعالى القوة، وإنَّ الرضا بالذل يؤدي إلى الموت، وطلب العزة يؤدي إلى الحياة، وكما قال خليفة رسول الله أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (اطلب الموت توهب لك الحياة).
وثالثًا: إنَّ الاستضعاف يؤدي إلى الموت لا محالة، ويكون الموت على نحو لا كرامة فيه، وصوره سبحانه وتعالى - بقوله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}، فهو موت ذليل فيه خسة الذل وقتل النخوة، أما الموت في سبيل الكرامة فهو موت عزيز كريم، ورحم الله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده إذ يقول: (إن موتًا في سبيل الحق هو عين البقاء، وحياة في ذلك هي عين الفناء).
رابعًا: إنَّ القوة تكون للقوي بتمكين الله تعالى وبمشيئته، وذلك بأن يهيئ الأسباب ليستبدلوا بضعفهم قوة فيمنحهم الأمن، وذلك بأن يجعلهم يشعرون بأنهم سادة، وليسوا عبيدًا، وهذا يتضمَّنه التعبير بقوله تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة}، أي: يجعلهم مسيطرين على أنفسهم، كما نوَّهنا فيما ذكرنا من قوله تعالى، كما منَّ الله تعالى على بني إسرائيل إذ جعلهم مالكين لأنفسهم مسيطرين على أمورهم؛ إذ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]، ومعنى جعلهم ملوكًا أنَّه سبحانه وتعالى - جعلهم أحرارًا يملكون شئون أنفسهم، ويتولون أمورهم لا مسيطر يسيطر عليهم.
هذه نظرات إلى النص القرآني الكريم في بعض شأن فرعون ومآله، ومن يجري في حكم شعبه على طريقته، ويتحكم في الرقاب تحكمه، ونجد فيه جمال اللفظ، وجمال القصص، والألفاظ التي تشع منها المعاني كأنَّها الضياء المتلألئ، والماء العذب النمير الذي ينساب في النفس المؤمنة، والله سبحانه هو العلي الحكيم، وكلامه هو النور المبين الهادي إلى رب العالمين.